بعد مرور حوالي ربع قرن على صدوره، عادت موضوعات كتاب الصحفية البريطانية فرانسيس ستونر سوندرز: “من الذي دفع للزمّار؟ الاستخبارات المركزية الأميركية والحرب الثقافية الباردة” (غرانتا بوكس، 1999) لتطرح نفسها مجددا على الساحة الفكرية الإيطالية، من خلال إصدارات حديثة لمراكز أبحاث مستقلة، وكذا دراسات نقدية وفنية ذات صلة.
وتبدو النقاشات المفتوحة في الصحافة والندوات العامة حول الكتاب دليلا على رهان تحقيق تاريخي ضخم، كشف للمرة الأولى عن خفايا صراع غير تقليدي شنّته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية على الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، باستخدام جنود لم يكونوا من العسكريين، بل من الكُتاب والمثقفين، وفي ساحة معركة ليست كأي ساحة، هي المسارح والجامعات وصفحات المجلات الأدبية.
حرب باردة ثانية هجينة
يأتي ذلك بالتزامن مع التحولات المتسارعة التي تشهدها حاليا الساحة العالمية وتزايد حدة الاستقطاب بين القوى الكبرى، وهو الوضع الذي لم يتردد المحلل “الجيوسياسي” الإيطالي إيمانويل بيتروبون في وصفه بحرب باردة ثانية، ضمن الملف رقم 42 (يوليو/تموز 2023)، من إصدارات مركز مكيافيللي للدراسات السياسية والإستراتيجية بفلورنسا، الذي أتي تحت عنوان “الحرب الإدراكيةـ التهديد الهجين الجديد”، وفيه يؤكد الباحث الإيطالي أن شكل الصراع الدولي الحالي “يشبه جبل الجليد، معظم ما يجري في داخله من أحداث لا يصل إلى السطح، ويبقى جُلّه متواريا عن الجماهير”.
ويؤكد الباحث المختص في ما يعرف بـ”الحروب الهجينة” أن “بقاء الجزء الأكبر من الصراع مغمورا يؤدي إلى انخفاض مستوى الوعي الظرفي بالأحداث، ويجعل من غياب حرب تقليدية ملموسة مرادفا خاطئا للسلام”.
المؤثرون والحرب الإدراكية
وهنا يميز بيتروبون بين أنواع النزاعات، حيث يشير إلى أن طبيعة الحروب الأكثر شيوعا مؤخرا أخذت أشكالا اقتصادية صرفة، إلا أن التنافس بين القوى العظمى يتجه نحو “الحروب الهجينة” أو المركّبة، أي دخول صراعات عن بُعد لا تخلّف وفيات، ولكنها تترك آثارا على الإدراك الجمْعي من شأنه زعزعة استقرار المجتمعات والعبث بنسيجها الاجتماعي.
وذكرت الدراسة أن المجنّدين في هذا النوع غير التقليدي من الحروب، هم حاليا المؤثرون على مواقع التواصل الاجتماعي، وكذا الناشطون غير الحكوميين.
ويعيد الكاتب الإيطالي جذور هذا النوع من الحروب إلى فترة الحرب العالمية الثانية، ويقول، إنها امتدت طيلة الحرب الباردة، وسكّ بعدها “الجنرال” الأميركي ديفيد غولدفين مصطلح “الحرب الإدراكية” لأول مرة في 2017، في الحديث عن الحروب النفسية التي غدت شبكة الإنترنت ساحتها.
وباتت “الميمز”، وما يعرف باسم “التحديات”، والأخبار المضللة وغيرها من المواد المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي ذخيرة في الحروب الإدراكية التي تهدف -حسب الدراسة- إلى خلق تصدعات داخلية في المجتمعات، وهو ما يجعلها تشكّل أكبر تحدٍ أمني معاصر للدول.
وإذ تورد الدراسة الإيطالية ما تشير له نتائج تحقيقات متواترة لمراكز استخبارات خاصة بمواقع التواصل الاجتماعي إلى أن الخوارزميات على منصة “تيك توك” -على سبيل المثال- تصبّ كلها -ضمن أقاليم جغرافية محددة- في الترويج لمحتويات بعينها؛ كثقافة “الووك”، وتسليع الجسد، ومجتمع المثليين، بالإضافة إلى ما أطلقت التقارير عليه اسم “التحديات الغبية أو الخطيرة أو التي تحط من قيمة النفس”.
الكلمات الدلالية: