البحث
سمير صبيح… صوتٌ لا يرحل وذاكرة حيّة في وجدان العراقيين
  • نشر قبل اقل من دقيقة
  • نشر في ثقافة
  • 3 مشاهدة

تمرّ في هذه الأيام الذكرى الرابعة لرحيل الشاعر العراقي الكبير سمير صبيح، الشاعر الذي لم يكن مجرد صاحب قصيدة تُلقى، بل كان صاحب موقف وصوت وضمير حيّ.

في أكتوبر من عام 2021، غاب جسد سمير صبيح إثر حادث سير مؤلم على طريق الكوت، لكن كلماته بقيت حيّة في الشارع العراقي، في المقاهي، في الإذاعات، وعلى ألسنة الناس، فصدى حروفه ما زال ينبض في كل بيت، وكل قلب عرف الوجع يجد في شعره عزاءً وسنداً.

 

صوت الناس
سمير لم يكن شاعر نخبة أو قصيدة بعيدة عن الناس، بل كان شاعر الأحياء الشعبية، شاعر الفقراء والأمهات، يرى الشعر وسيلة للبوح لا للزينة، وكان يؤمن بأن القصيدة إن لم تخرج من القلب فلن تصل إليه.
كتب عن الحب كأنه صلاة خاشعة، وعن الوطن كأنه بيت يحاول إعادة بنائه بقلمه، وعن الأم كأنها نهر يجري في صدره. لم يكن يسعى للشهرة ولا للمجد، بل للأثر… وقد ترك أثراً لا يُنسى.

 

 

 

 

وُلد سمير صبيح ضاحي القريشي في بغداد عام 1970 في بيت بسيط لكنه مليء بالحب والشعر والموسيقى. بدأ رحلته مع الكتابة في أواخر الثمانينيات، وكانت قصيدته الأولى بمثابة ومضة مختلفة في زمن مثقل بالألم.

 

 

ومع بداية التسعينيات بدأ اسمه يسطع في المهرجانات الشعرية، بفضل صوته الدافئ وأسلوبه الصادق الذي يكسر الحاجز بين الشاعر والجمهور. حين كان يعتلي المنصة، يصمت كل شيء… فالناس كانت تشعر أن من يتحدث أمامها واحدٌ منهم، لا نجم يتعالى على جمهوره.

 

قصيدة الوجع
لم يكتب سمير عن الوطن كموضوع سياسي، بل ككائن حي يشعر ويتعب ويتنفس. قال في إحدى قصائده الشهيرة:
“الوطن مو خارطة، الوطن وجوه التعبانة، وصوت أمي من الفجر، وريحة خبز التنور”.

بهذا الأسلوب القريب من الناس شكّل ملامح جديدة للشعر الشعبي العراقي، الذي لم يعد مجرد غزل وإيقاع، بل مساحة للألم الجمعي وصوت للضمير الوطني. كان قادراً على أن يجمع في قصيدة واحدة العتاب والصرخة والضحكة والدمعة… كأنه يكتب بدمه.

 

 

ولم يكتفِ بمنصات الشعر، فقد انتقل إلى الإذاعة والتلفزيون ليجعل القصيدة أقرب إلى الجمهور، وقدم برامج من بينها: “قوافي”، “السوالف”، و”شعراء على الطريق”، ليصير الشعر جزءاً من حياة الناس اليومية.
كما كتب العديد من الأغنيات التي غناها كبار الفنانين العراقيين، فتحولت قصائده إلى أغانٍ تسكن البيوت وتمشي على شفاه الناس.

 

 

سمات شعرهسرّ جمال شعر سمير صبيح يكمن في الصدق… الكلمة التي جعلها شعار حياته.
كتب باللهجة العراقية البغدادية والجنوبية ببساطة مؤثرة ودون تكلف، ولم يلجأ إلى استعارات معقدة أو أوزان مغلّفة، بل إلى جُمل يومية تتحول بين يديه إلى شعر خالد.
كان قريباً من مظفّر النواب في جرأته، ومن عريان السيد خلف في حرارته، لكنه احتفظ بصوته الخاص المختلف والمميز.

 

 

سمير الإنسان
كل من عرفه يدرك أن تواضعه وحبه للناس كانا أكبر من شهرته الواسعة.
ظل قريباً من الناس يجلس في مقاهيهم ويشاركهم همومهم وضحكاتهم ويقول دائماً:

“الشعر مو مهنة… الشعر وجع”.
ولهذا حين رحل لم تبكِه العيون فقط، بل بكت القلوب قبله. بقي فراغه واضحاً، وكأن الشعر نفسه أصبح أكثر وحدة بعده.

 

 

رحل سمير صبيح، لكن إرثه باقٍ. قصائده تُتلى في المهرجانات، ودروسه تُدرّس في الجامعات، وأشعاره تُحفظ في ذاكرة العراقيين. فقد استطاع وحده أن يجمع بين العفوية والعمق، بين الوطنية والعاطفة، بين الحزن والابتسامة.

كان صوته يملأ الحياة صدقاً… وما زال اليوم يذكّرنا بأن الكلمة النابعة من القلب لا تموت.

 

 

وفي الذكرى الرابعة لرحيله، نستعيد سمير لا كشخص غاب، بل كصوت لا يغيب… ترك لنا شعراً يعلّمنا أن القصيدة تُكتب للحياة.