يُحيي العالم في السادس عشر من تشرين الثاني من كل عام اليوم العالمي للتسامح، وهو اليوم الذي دعت إليه الأمم المتحدة بهدف تعزيز قيم التسامح والاحترام المتبادل بين الشعوب. لكن عند التأمل بعمق، يتبيّن أن التسامح ليس مجرد شعار أخلاقي نرفعه في مناسبة عالمية، بل هو عملية نفسية وعلمية متكاملة، وقرار واعٍ يؤثر مباشرة في سلامة الصحة العقلية والجسدية للإنسان.
وفي جوهره، يشكّل التسامح هدية نهديها لأنفسنا أولًا قبل أن نمنحها للآخرين، إذ يمتد أثره ليطال أدق المسارات البيولوجية والعاطفية في داخلنا.
التسامح يطفئ تأثير “هرمون التوتر”
أولى الفوائد تظهر على مستوى كيمياء الجسم الداخلية. فتمسّك الإنسان بالحقد أو الغضب المزمن يؤدي إلى إفراز مستمر ومفرط لهرمون الكورتيزول، المعروف بهرمون التوتر. هذا الارتفاع المتواصل، المرتبط باستجابة “القتال أو الهروب”، يضعف جهاز المناعة تدريجيًا ويُفاقم حالات القلق المزمن. وهنا يأتي دور التسامح الذي يعمل كمفتاح إيقاف لهذه الحالة النفسية، فيقطع سلسلة التفاعل السلبي ويسمح بانخفاض واضح في مستويات القلق والضغط النفسي، ليعود الجسم إلى حالة من الهدوء والسلام الداخلي.
تحرير الذهن من “سجن الأحقاد”
رفض التسامح يحوّل العقل إلى مساحة مغلقة من الأسر الداخلي. فالإنسان الذي يحمل الحقد يظن أنه يعاقب الآخرين، بينما هو في الحقيقة يرهق نفسه ويدفع ثمنًا مستمرًا لماضٍ ما زال يثقل حاضره. هذه الطاقة الذهنية الكبيرة التي تستنزف في التفكير بالألم أو في التخطيط للرد لا يمكن استثمارها في الإبداع أو الإنتاج أو تحقيق الأهداف. غير أن التسامح يمنح العقل حرية من هذا القيد، وينقل الشخص من موقع “الضحية” المرتبطة بالألم إلى موقع “الناجي” الذي يمتلك السيطرة على حاضره ومستقبله.
التسامح بوابة للنوم العميق
من أكثر الآثار وضوحًا للغضب المكبوت اضطرابات النوم والأرق. فالعقل المنشغل باستعادة المواقف المؤلمة أو التفكير في الانتقام يعجز عن الدخول في حالة استرخاء حقيقية. أما التسامح، فيفتح الطريق أمام نوم هادئ وعميق لأنه يخلق شعورًا بالسلام الداخلي والقبول. هذا التحسّن في جودة النوم له أهمية كبيرة، إذ يساعد الدماغ على التعافي ويخفّف من حدة الإجهاد النفسي والجسدي، ويرفع من مستوى المزاج واليقظة خلال ساعات النهار.
التسامح يعزّز احترام الذات وقوة الشخصية
التسامح قرار واعٍ يعكس قوة داخلية، فهو اختيار السلام بدلًا من الغضب لا بدافع الضعف، بل بدافع السيطرة على الانفعالات بوعي كامل. هذا الاختيار يعزز الثقة بالنفس ويزيد من تقدير الإنسان لذاته، لأنه يثبت لنفسه أنه ليس أسيرًا لتصرفات الآخرين، وأنه يملك القدرة على تحرير مشاعره بإرادته الخاصة، مما يجعله أكثر إحساسًا بالقوة والانضباط العاطفي.
وفي النهاية، يظهر التأثير التراكمي للتسامح في تخفيف أعراض القلق والاكتئاب وفي بناء علاقات أكثر صحة وتوازنًا. والأهم أن رحلة التسامح تبدأ من الداخل؛ فالتسامح مع الذات أولًا بشأن الأخطاء والقصور هو الأساس الحقيقي للشفاء النفسي. فالتسامح، في جوهره، وصفة فعّالة للعيش بقلب نقي وعقل متزن، وهو عملية تبدأ من داخل الإنسان وتستمر وتتجدّد فيه.
المصدر: Iraq Zone | عراق زون