ما إن تثبت رؤية هلال العيد في آخر أيام شهر رمضان، حتى تبدأ الجوامع بالتكبير إعلاناً عن بدء عيد الفطر، وبعدها ينطلق المسحرون بطبولهم ليجوبوا المناطق معلنين نهاية شهر رمضان. وفي صبيحة يوم العيد تزدحم الجوامع بالمصلين الذين يؤدون صلاة العيد، لتبدأ بعدها تهاني العيد تأخذ طريقها بين الأهل والجيران.
بقي العيد محافظاً على طقوسه في العراق وإن شابه بعض الفتور، إذ يقبل العراقيون وتحديداً في أول أيام العيد على شراء “الكاهي والقيمر” (القشطة) كوجبة إفطار لأغلب العوائل العراقية. كما تزدحم المقابر بالزوار لقراءة الفاتحة على أرواح الموتى، وتوزع خلال الزيارة الأطعمة والنقود على الفقراء والمعوزين. وداخل البيت العراقي، اعتادت العائلة العراقية عمل “الكليجة”، وهي تصنع من الدقيق ويتم حشوها بالتمر أو جوز الهند أو المكسرات وأغلب العوائل تطلق عليها “كليجة العيد”.
غالباً ما يسبق تحضيرات العيد الاستنفار الأمني، إذ أعلنت قيادة عمليات بغداد دخول الأجهزة الأمنية في حالة إنذار قصوى تحسباً لهجمات قد تتعرض إليها مناطق مكتظة بالسكان. وعلى الرغم من هذه التحذيرات والإجراءات وما يرافقها من تشديد الإجراءات وقطع بعض الطرق، إلا أن العراقيين دائماً ما يتشبثون بالأمل، فهم يحرصون على الاحتفال بالعيد. وعلى الرغم من التحذيرات الأمنية المعلنة، تزدحم مراكز التسوق والمطاعم بالعوائل التي تجد في العيد فرصة للفرح، وإن كان هناك ما يُعكر صفو المناسبة من أزمات سياسية واقتصادية.
أجواء العيد لم تعد كالسابق
ويرى الناشط المجتمعي ومدير الإعلام والتواصل في إحدى المؤسسات عبدالعزيز آل صالح، أن أجواء العيد تغيرت كثيراً عن السنوات الماضية، ففي السابق كان العيد مناسبة ينتظرها الجميع لتبادل الزيارات العائلية، وتقام الولائم ليجتمع حولها كل الأحبة والأصدقاء، ويكون العيد مناسبة لتصفية القلوب وطرح الخلافات جانباً، إذ يبادر الكبير قبل الصغير في مد يد الصفح والمسامحة بنية خالصة للصلح. ويعتبر أن مناسبة العيد فقدت قيمتها و”أصبحت فترة العيد تمر مرور الكرام لا نشعر بعبقها ولا نستطعم حلو أيامها”.
ويقول “كنا نحلم بالعيد قبل مجيئه بفترة طويلة، لأنه كان بالنسبة إلينا العيدية التي يثابر على تقديمها لنا كل من يزورنا أو نزوره من الأقارب والأصدقاء، إضافة لملابس العيد التي كنا نتباهى بها عندما نبادر لزيارة بيوت المحلة للتهنئة وطمعاً في الحصول على العيدية”.
أما الناشط والمهتم بإحياء التراث الموصلي أيوب ذنون، فيرى أن مدينة الموصل حافظت على عادات وتقاليد دينية واجتماعية متأصلة “كصلاة العيد والزيارات بين الأقارب والتجمعات العائلية الكبيرة، إضافة إلى قيمة التكافل الموجودة لإسعاد الأيتام”.
البيوت كانت تزدحم بزيارة الأقارب
وتمثل أيام العيد مناسبة لتبادل الزيارات، وتقول المهندسة والناشطة النسوية أبرار وادي، إنه في السابق كانت أيام العيد الثلاثة تزدحم بالزيارات العائلية، أما الآن فقد اختفت الزيارات وفقد العيد روحه الحقيقية، “فالأغلبية يكتفون ببوست أو رسالة عبر الـواتساب أو حتى في أفضل الأحوال مكالمة تعويض عن زيارته، وهذا ما جعل أجواء صباح العيد في بيتنا باردة مع زيارة يتيمة وسريعة من أحد أقاربنا”.
تستذكر وادي أيام العيد سابقاً وتقول، “في السابق كانت طقوس العيد تبدأ مع عودة الرجال من صلاة العيد، حينها تتوافد الأطفال إلى المنازل لاستلام العيدية من الجيران، تليها وجبة منتصف صباح العيد لكثير من العوائل البصرية التي دأبت على أكل المسموطة (السمك المجفف – أكلة تراثية لا زال أهل جنوب العراق محافظين على أكلها في الأعياد).
وتكمل أبرار وادي لتوضح أن ارتفاع نسبة الوفيات في السنوات الأخيرة بسبب حراك أكتوبر (تشرين الأول) وبعدها جائحة كورونا، أفقد كثيراً من العوائل البصرية أحباء لهم، “فأهل المتوفى يحرصون في العيد على زيارة المقابر، وغالباً ما يعزفون عن الاحتفال مع باقي أبناء المنطقة”، ما أفقد العيد نكهته القائمة على الفرح.
الحياة تفرض التغييرات
يرى الفنان أنيس المشهداني، أن الظرف الحالي والبيئة المختلفة أسهما في خلق أجواء مغايرة للعيد الذي كنا نعاصره قديماً، “ففي السابق كانت الحياة بسيطة والمغريات قليلة، وكان لكل شيء قيمته واحترامه، والعائلة كانت متكاتفة مستقرة، عكس العائلة في الوقت الحالي فهي متفرقة وباتجاهات مختلفة، بسبب تنوع الاختيارات وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، ما خلق جيلاً مختلفاً تماماً عن السابق بعيداً عن القيم والعادات الاجتماعية التي تربينا عليها، والتي تعطي للأعياد قيمتها وقدسيتها”.
وفي السياق نفسه، يرى رسام الكاريكاتير حسين زندي، أن هناك عوامل جردت العيد من طقوسه الاجتماعية التي كانت سائدة، “فالأزمات العديدة التي ضربت أركان المجتمع العراقي ونواته المتمثلة بالأسرة، ومنها الوضع الاقتصادي المتردي وما خلفته الحروب من تشتت في الأسرة، كلها عوامل أبعدت العيد من روحه التي اعتدنا عليها”.
العيد عبر الـ”واتساب”
هيمنت التكنولوجيا على حياتنا بشكل لافت وغيرت كثيراً من تقاليدنا، لا سيما ما يتعلق بالتواصل الاجتماعي، فغالباً ما يكتفي البعض بإرسال رسائل جاهزة عبر الـ”واتساب” لتكون بديلاً من التفاعل الحقيقي الذي يتم عبر تبادل الزيارات العائلية.
وفي هذا السياق، يوضح الكاتب عبد الكريم السياب قائلاً، “لقد كانت الزيارات سابقاً بين الأهل والمعارف من العادات التي دأبت عليها المجتمعات الإسلامية أو تكون التهاني من طريق معايدات البريد”. وهو يرى أن وسائل التواصل الاجتماعي أفسدت متعة العيد ورونقه، واستبدلت الزيارات الاجتماعية برسائل قصيرة إلى الأقارب والأصدقاء، لينجز الواجب الاجتماعي في غضون دقائق، فانحسرت العلاقات، ولم تعد متينة كالسابق، وقد يكون أحد الأسباب ضيق الوقت وانشغال الأفراد بمتاعب الحياة”.
لا طعم للعيد في دول الاغتراب
بالنسبة إلى المغتربين العراقيين، فلا طعم للعيد في دول المهجر. وتحدثنا الروائية العراقية غيد آل غَرَب قائلة، إن “العيد يأتي غريباً لا طعم له، ليصبح عيداً لأطفالنا وكل ما فيه يدور حولهم من ملابس جديدة ونزهات أو حتى زيارات للصديقات اللواتي عندهن أطفال، لكي يشعر أطفالنا بفرحة العيد”.
وتوضح بأن التكنولوجيا أسهمت في تسهيل التواصل بين من تفرقوا حول العالم، “نعايد بعضنا من طريق تطبيقات الهاتف المحمول ووسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً وأن كثيراً من معارفنا متفرقون حول العالم”.
أما سعد جعفر المقيم في بريطانيا منذ سنوات طويلة، فيستذكر كيف مر أول عيد له حزيناً وهو في بريطانيا لأنه لم يشعر بأجوائه، قائلاً “أول عيد مر علي وأنا في الغربة لم أشعر به بسبب غياب الجاليات العربية في وقتها في بريطانيا، وسمعت بالعيد بعد أن انتهى وبعد أن استلمت معايدة من أهلي ما جعلني أجهش في البكاء”.
ويرى جعفر أن الحياة في الاغتراب مليئة بالمشاغل، فحتى بعد وجود جاليات عربية في بريطانيا أسهمت في خلق أجواء للعيد، إلا أنه لم يتمكن من مسايرة الاحتفالات بسبب كثرة الانشغالات، وهو يرى أن احتفالهم بالعيد مع عائلته محدود جداً، “اقتصرت احتفالاتنا على كلمة (أيامكم سعيدة)، وحتى بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتواصلنا مع الأهل والأصدقاء بقيت احتفالاتنا محدودة جداً، ولعل ما يميز العيد إصرار زوجتي على الاحتفاظ بطقس عمل (كليجة العيد)”.
الكلمات الدلالية: