البحث
حين وقف جورج شحادة حائرا أمام ما أصاب مسرحيته
  • تاريخ النشر: 03 مارس 2023 | الساعة: 07:50 صباحًا
  • نشر في ثقافة
  • 116 مشاهدة

عند بدايات عام 1907 وكان الكاتب المصري/ اللبناني جورج شحادة قد انتهى تقريباً من كتابة مسرحيته الثالثة “حكاية فاسكو” كان سروره وإيمانه بجمال وقوة تلك المسرحية أن بعث إلى صديقه المسرحي الفرنسي جان لوي بارو الذي كان أول من قدم أعماله المكتوبة بلغة شاعرية استثنائية، رسالة مفعمة بالحماسة يقول له فيها: “لقد أنجزت كتابة ثلاثة أرباع المسرحية، وهي تبدو لي هزلية من أولها إلى آخرها، مع أن فيها هنا وهناك لحظات مرارة حارقة. وأعتقد منذ الآن أنك ستحب هذه المسرحية المعنونة “حكاية فاسكو”، – ما يعني أن فيها حكاية -، كما أن الكتابة فيها أكثر مباشرة”. ولاحقاً حين اطلع بارو على المخطوط كتب إلى شحادة يقول: “لقد أثار ما قرأته حماستي الشديدة وافتتنت تماماً. لست أدري ما إذا كان الآخرون سيعتبرون المسرحية تحفة فنية، أما أنا فأراها كذلك. ولسوف أبكي دموعاً ودماً إن لم تتركني أقدمها للمسرح بنفسي”. وطبعاً كان تقديم المسرحية تمثيلاً وإخراجاً من نصيب بارو. ولكن بما أن عقد بارو وفرقته مع قاعة “مارنيي”، حيث كان يقدم أعماله ومن بينها مسرحيتا شحادة الأوليان، “مسيو بوبل” و”سهرة الأمثال”، كان قد انتهى جالت الفرقة في عدد من بلدان العالم مع برنامج يتضمن تقديماً لـ”حكاية فاسكو” حصد نجاحاً كبيراً واختتم صيف عام 1957 بتقديم مدهش ضمن إطار مهرجانات بعلبك في حضور رئيس الجمهورية اللبنانية كميل شمعون.

تقديم باريسي

وكانت الخطوة التالية العودة إلى باريس وقد تكللت المسرحية بسمعة عالمية إضافية مهدت لتقديمها في العاصمة الفرنسية وتحديداً في قاعة “سارة برنار” العريقة. وفي حفل الافتتاح كانت كل باريس السياسية والاجتماعية والثقافية حاضرة وكان شحادة وبارو يتوقعان بالطبع أن يأتي نجاح “حكاية فاسكو” في باريس متفوقاً على نجاحها في أي مكان آخر بل حتى في مدينة بعلبك في لبنان، موطن آل شحادة وبالتالي موطن جورج شحادة. لكن الأمور لم تجر على تلك الشاكلة. فما الذي حدث؟. ببساطة كان قد وُزّع قبل العرض نوع من بيان صحافي – فني فيه نص لشحادة يقول فيه إن “حكاية فاسكو” هي نص يعتبره أشبه بـ”كتاب صور” ففي “كل مرة كنت أنصرف إلى كتابة صفحات جديدة منه كنت أخرج من علبة ألعاب طفلي أولئك الجنود الخشبيين فاستعرضهم لأستوحي من ألوان الجنود وسحناتهم أبعاداً بصرية وقدراً كبيراً من البراءة. منطقياً وكما ترون يتعين على هذه المسرحية بالتالي أن تكون ذات تأثير حسن وخيّر. ولكنها لن تكون كذلك، بالنظر إلى جنود ولدي الخشبيين سيقتلون فاسكو في نهاية الأمر!”.

الرسميون جمدوا

في بداية الأمر يبدو أن كثراً من “علية القوم” و”كبار السياسة والمجتمع الحاضرين” لم يتنبهوا إلى ما جاء في ذلك “البيان”، أو لم يقرؤوه حتى نهايته على أية حال. وبالتالي مضى العرض على خير حتى النهاية. ولكن عند النهاية ساد الوجوم وتنبه معظم الحضور إلى ما يختم به الشاعر بيانه وكيف أنه يرتبط بـ”معان مضمرة” تعبر عن مواقف معادية لفرنسا! كيف؟ ببساطة لأن فرنسا التي كانت نخبتها تشاهد عرضاً شاءه شحادة “إنسانياً” يعبر عن موقف ضد القتل والحروب، كانت في تلك المرحلة من تاريخها قد انهزمت في حربها في الهند الصينية وبدأت تخوض في شمال أفريقيا وتحديداً في مجابهة ثورة الشعب الجزائري، واحدة من أقسى الحروب الظالمة في تاريخها. وكانت فرنسا منقسمة على ذاتها. صحيح أن حضور العرض الافتتاحي لـ”حكاية فاسكو” لم يهاجموها مباشرة تلك الليلة بل اكتفى غلاة اليمينيين المتطرفين والرسميون من بينهم بعدم التصفيق، ولكن منذ صباح اليوم التالي ارتفعت أصوات تطالب بمنع المسرحية فقابلتها أصوات مؤيدة لها. وكل ذلك وسط ذهول شحادة الذي سيقول لاحقاً إنه لم يفهم ما يحدث. أما جان – لوي بارو فنشر مقالاً افتتاحياً في أسبوعية “الفنون” تحت عنوان “لقد اغتالوني!”. مندداً فيه باليمينيين المتطرفين الذين حاولوا قتل “حكاية فاسكو”! لكنهم في نهاية الأمر لم يتمكنوا من ذلك!

موت وحرية

تدور مسرحية شحادة هذه، من حول الحرب، والفرد في هذه الحرب. هذا من ناحية شكلها الأول لكنها في العمق، مسرحية عن الموت والحرية، وعن الخيارات المتاحة للإنسان في زمن القتل، ومن ثم عن رد فعل هذا الإنسان على ما يجد نفسه غارقاً فيه من دون إرادته. أما مكان أحداث المسرحية فيتوزع على ألمانيا وربما إيطاليا أيضاً وأميركا الجنوبية خلال حرب مندلعة عام 1850. وعند بداية المسرحية يطالعنا القائد، الملقب بـ”المراقب العام” ليكشف لنا عن أن لديه أفكاراً طريفة ومحددة حول الحرب والموت والشجاعة، وخصوصاً حول الخوف. وهو دعماً لأفكاره هذه يعلمنا مباشرة أنه يحب الناس الذين يخافون، كونه يرى أن لديهم حساً يفتقر إليه الآخرون: حس إدراك الفوارق الدقيقة بين الأمور. وبسرعة تقول لنا المسرحية هنا إن الشخص الذي يمتلك هذا الحس أكثر من أي شخص آخر، إنما هو هنا حلاق الضيعة البسيط في ساسو، المدعو فاسكو. وفاسكو هذا شاب طيب نقي، لكنه يعرف كيف يلجأ إلى شتى أنواع الحيل حين تحتاجها الأوضاع. لكن فاسكو، في المقابل، لا يحب الحرب أبداً. ومن هنا يقع عليه اختيار المراقب العام كي يرسله في تلك المهمة الخاصة المحفوفة بالمخاطر، والتي انطلاقاً من نجاحه فيها سيتقرر مصير المعركة، أو بشكل أكثر تحديداً، حتمية الانتصار فيها.

معارك وغربان

وإذ لا يمكن لفاسكو أن يرفض، ها هو في لوحة تالية من لوحات المسرحية الثماني، يجد نفسه وسط المعارك والموت يراقب الغربان المحلقة المنذرة به. وفاسكو يراقب هذا كله ويعايشه. بل إنه انطلاقاً من هذا المناخ الذي وجد نفسه فيه، سيتحول من حلاق صغير بسيط إلى شاعر وعاشق و… بطل. كيف؟ هذا هو فحوى ما يرسمه شحادة في هذه المسرحية الأخاذة التي لا شك أنها الأكثر شفافية وعمقاً وإنسانية بين كل ما كتب جورج شحادة خلال تاريخه الكتابي، حتى وإن قالوا أيضاً إنها تكاد تشكل ثلاثية مع سابقتيها “مسيو بوبل” و”سهرة الأمثال”. وما السمات الطفولية التي يسبغها شحادة على كل من الشخصيات الرئيسية في المسرحيات الثلاث في مزج بين البطولة والشاعرية والعشق سوى حنين إلى إنسان بات جورج شحادة يرى، في زمن الحرب الباردة والحروب الساخنة والقنابل الذرية، أنه لم يعد إنساناً… لأنه فقد أهم ما فيه: طفولته. ولعل هذا المشترك هو ما يجعل “حكاية فاسكو” مسرحية بسيطة من الناحية الشكلية، حيث تبدو وكأنها قصيدة متعددة الأصوات، لكنها في عمق أعماقها لا تتسم بأية بساطة. بل إن تركيبتها تمتد لتربطها بالعملين السابقين لشحادة، وتجعلها ممهدة لما يلي من مسرحيات هذا الكاتب: “الزنابق” و”السفر”، وخصوصاً “مهاجر برسبان” أكثر أعماله شعبية منذ ظهرت عام 1956، فاقتبست وقلدت، وحولت إلى أكثر من فيلم نسي أصحابه أن يذكروا أن العمل مقتبس عن جورج شحادة!. وصولاً إلى مسرحيته الأخيرة – التي غلب عليها، على أي حال، طابع وعظي لم يكن معهوداً في مسرح شحادة، لكن هذه حكاية أخرى “الثوب يصنع الأمير” (1973).

لبناني من مصر

ولد جورج شحادة في مدينة الاسكندرية في مصر عام 1907 من أبوين لبنانيي الأصل. ولقد عادت العائلة إلى لبنان عام 1919، كي يتمكن جورج وإخوته الخمسة من الدراسة. وهناك أنهى كاتبنا دراسته في مجال التجارة. لكن تعرفه لاحقاً، من خلال وظيفته في دائرة التربية العامة، بالناقد غابريال بونور، وجهته صوب الكتابة، فبدأ بكتابة الشعر والنصوص النثرية القصيرة – ودائماً في اللغة الفرنسية -، حتى سافر إلى باريس عام 1933 ليعيش ويعمل ويكتب فيها منذ ذلك العام، وحتى نهاية حياته، مع فترات قطيعة أمضى معظمها في بيروت ولا سيما أميناً عاماً لمدرسة الآداب العليا فيها. ولئن كان شحادة بزغ ككاتب مسرحي بدءاً من عام 1951، مع “مسيو بوبل”، فإنه في الواقع كتب هذه المسرحية عام 1939، لكنها انتظرت اكتشاف فرقة بارو- رينو لها آخر الأربعينيات قبل أن تقدم للمرة الأولى ومعها ينطلق جورج شحادة كواحد من أبرز كتّاب المسرح الشعري في فرنسا عند بدايات النصف الثاني من القرن العشرين.

مشاركة